
في قلب حقول الزيتون الممتدة بين بلدتي كللي وكفر عروق، تدور اليوم قصة مختلفة تمامًا عن المواسم السابقة. قصة لا تبدأ من جذور الشجرة، بل من شيفرتها الوراثية. ضمن مشروع غير مسبوق في سوريا، تعمل جمعية آكاديا للتنمية المستدامة، تحت إشراف منظومة وطن، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، وبالتعاون العلمي مع جامعة إدلب – كلية الهندسة الزراعية، على إطلاق ثورة زراعية هادئة… الهدف منها كشف “الحقيقة الوراثية” لشجرة الزيتون السورية، بعد سنوات من الالتباس والغش وتدهور الإنتاج.
لطالما اعتمد الفلاح السوري على “العين والذاكرة” لتمييز أصناف الزيتون، وهي أساليب أثبتت عدم دقتها، خصوصًا في ظل التغيرات البيئية التي تُشوّه ملامح الشجرة. لكن هذا المشروع قرر قلب المعادلة، باستخدام تقنيات تحليل الحمض النووي، للكشف عن الهوية الجينية الحقيقية لكل صنف. لم تعد الشجرة تُعرَف بلون أوراقها أو شكل ثمرتها، بل ببصمتها الوراثية.
وهنا يكمن الفرق. عبر تقنيات مثل ISSR وSCoT، بدأ فريق العمل ببناء قاعدة بيانات وراثية، تشمل عشرات الحقول، لمساعدة المزارعين على اختيار الغراس الصحيحة، المناسبة تمامًا لمناخهم وتربتهم. والنتيجة؟ زيت أوثق، جودة أعلى، وخسائر أقل.
لكن المشروع لا يتوقف عند حدود الحقل. فالمشاتل اليوم تحصل على فرصة ذهبية لإنتاج غراس موثقة جينيًا، الأمر الذي يعزّز ثقة الزبائن، ويمنع التلاعب بأسماء الأصناف. لا غش بعد الآن… كل غرسة ستملك هوية لا يمكن تزويرها.
أما الباحثون والمؤسسات الأكاديمية، فوجدوا في هذا المشروع بوابة جديدة لتطوير برامج تحسين الأصناف، واستعادة الزيتون السوري الأصيل الذي كاد يضيع في زحمة الخلط والتقليد. الأصناف التقليدية، ذات القيمة الغذائية العالية، باتت الآن قابلة للتوثيق والحماية.
هذا التقدّم العلمي لا يخدم المزارع فقط، بل يصب في مصلحة المستهلك أيضًا. فزيت الزيتون، ذلك “الذهب السائل” كما يحب السوريون تسميته، سيكون قريبًا منتجًا يحمل ختم الثقة، من الغرسة وحتى الزجاجة. الجهات التنظيمية بدورها ستحصل على أداة فعّالة لمراقبة سلسلة الإنتاج ومحاسبة المخالفين.
ومع الحديث عن المستقبل، يقترح المشروع خطوات جريئة: إنشاء مشاتل نموذجية، تطوير مختبرات تحليل جيني متطورة، وإطلاق منصات رقمية لإدارة ومشاركة البيانات الوراثية، ما يتيح للمزارعين والباحثين الوصول السريع للمعلومة واتخاذ القرار الصحيح.
في النهاية، المشروع لا يتعلق فقط بتحليل جيني أو تحسين إنتاجية. إنه بداية لنظام زراعي شفاف، علمي، ومستدام… نظام يعيد الثقة لواحدة من أقدم وأهم الثروات الزراعية السورية.