
وسط الخيام الممزقة، وفي ممرات المخيمات الموحلة شمال غرب سوريا، كان المشهد يبدو كما عهدناه: بؤس، صمت، وأمل يوشك أن ينطفئ. لكن شيئًا غير متوقّع حدث… كرفان صغير، مرسوم عليه فراشات وألوان، ينبعث منه ضوء خافت، وضحكات أطفال لم نسمعها منذ زمن. كان هذا بداية قصة مختلفة… قصة مشروع D160، الذي تنفذه منظمة وطن منذ فبراير 2025.
في البداية، لم يكن أحد يتخيل أن هذا الكرفان المتنقل سيصبح ملاذًا نفسيًا واجتماعيًا لمئات الأطفال، وفسحة أمان داخل عالم قاسٍ. لكن ما جرى خلال الشهور الثلاثة الأولى من المشروع كان أكبر من مجرد أنشطة ترفيهية. مئات الجلسات التي احتضنت خيالات الأطفال، دموعهم، ضحكاتهم، وحتى صمتهم، كانت تعيد إليهم شيئًا اسمه “طفولة”، كثيرون منهم نسوه أو لم يعرفوه أصلًا.
في معرتمصرين، الدانا، وحرم، انتشرت تلك المساحات المتنقلة، وجمعت أكثر من ألفين وخمسمئة طفل وطفلة، بعضهم لم يكن يعرف كيف يحمل قلم تلوين، وبعضهم لم يبتسم منذ شهور. لكن شيئًا فشيئًا، بدأت الابتسامات تظهر، والأسئلة تعود، والعالم يستعيد ألوانه.
ولم تكن الأمهات بعيدات عن المشهد. في جلسات خاصة، تحدثن عن أوجاع لا تُروى، عن الذنب، والانهيار، والارتباك في تربية أطفال في بيئة كلها فقد وحرمان. ومع كل لقاء، كانت واحدة منهن تخرج برؤية جديدة، بفكرة بسيطة… أن الحنان لا يتعارض مع الحزم، وأن التعبير مع الأطفال قد يكون دواء للاثنين معًا.
ورغم الطابع الجماعي للمشروع، كان هناك اهتمام خاص بالحالات الفردية. ما يقرب من مئتي حالة تم رصدها ضمن الفئات الأشد هشاشة: أطفال دون رفقة، ذوو إعاقات، من يعيشون صدمات حادة أو تحت رعاية وحيدة من أم أو جدة. كان التدخل شخصيًا، دقيقًا، وإنسانيًا في أعلى مستوياته. ولعل قصة “أحمد”، الطفل المصاب بهشاشة العظام، ستبقى شاهدة. لم يكن أحمد يخرج من بيته، حتى جاءه الكرسي المتحرك، والدعم النفسي، والأهم: كرفان فيه من يحتضن روحه لا جسده فقط.
وفي مركز التمكين المجتمعي، كانت الحياة تنبض على نحو آخر. هناك، تحوّل الشباب من ضحايا إلى فاعلين. تلقوا تدريبات تفاعلية على الإسعافات الأولية، جمع البيانات، وحتى إعدادهم ليكونوا مدربين بأنفسهم. الكثير منهم طلب لاحقًا الانضمام للفريق، بعد أن وجد صوته، وربما ذاته، في أحد تلك الصفوف.
حتى الفرح كان جزءًا من الحماية. خمس فعاليات مجتمعية، من أعياد إلى نشاطات للأطفال، ومن تكريم النساء إلى بطولات كرة قدم، كانت كافية لتذكير الناس بأنهم ليسوا وحدهم، وأن هناك من لا يزال يراهم… ويؤمن بقدرتهم على النهوض.
ما فعله مشروع D160 لم يكن مجرد تدخل إنساني. لقد كان أشبه بشرارة صغيرة أشعلت الكثير من الأمل، أعادت للمخيم لونًا، وللعائلة صوتًا، وللأم حضنًا آمنًا، وللطفل لحظة كان يستحقها منذ زمن.
من كرفان بسيط، بدأت الحكاية… ولكنها لم تنتهِ بعد.